كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومجرد بناء الفعل {يُضَاعَفْ} [الأحزاب: 30] للمجهول يدل على رحمة الله ولُطْفه في العبارة، فالحق سبحانه يحب خَلْقه جميعًا، ويتحبب ويتودد إليهم، ويرجو من العاصي أنْ يرجع ويفرح سبحانه بتوبة عبده المؤمن أكثر من فرح أحدكم حين يجد راحلته وقد ضلَّتْ منه في فلاة.
وجاء في الأثر: «يا ابن آدم، لا تخافنَّ من ذي سلطان ما دام سلطاني باقيًا وسلطاني لا ينفد أبدًا، يا ابن آدم، لا تخْشَ من ضيق الرزق وخزائني ملآنة وخزائني لا تنفد أبدًا، يا ابن آدم، خلقتُكَ للعبادة فلا تلعب- والمراد باللعب العمل الذي لا جدوى منه- وقسمتُ لك رزقك فلا تتعب».
والمراد هنا لا تتعب، ولا تشغل قلبك، فالتعب يكون للجوارح، كلما جاء في الحديث الشريف: «مَنْ بات كالًا من عمل يده بات مغفورًا له» ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدًا خشنة من العمل قال: «هذه يد يحبها الله ورسوله».
فالتعب تعب القلب، فالشيء الذي يطيقه صدرك، وتقدر على تحمُّله لا يُتعبك؛ لذلك نجد خالي الصدر من الهموم يعمل في الصخر وهو هاديء البال، يغني بحداء جميل ونشيد رائع يُقوِّي عزيمته، ويعينه على المواصلة، فتراه مع هذا المجهود فَرِحًا منشرحَ الصدر.
وقد فطن الشاعر العربي لهذه المسألة فقال:
لَيْسَ بحمْلٍ مَا أطَاقَ الظَّهر ** مَا الحمْلُ إلاَّ مَا وَعَأهُ الصَّدْرُ

فالمعنى: أتعب جوارحك، لكن لا تُتعِب قلبك، والكَلَل والتعب لا يأتي على الجوارح إنما على القلب، فأتعب جوارحك في العمل الجاد النافع الذي تأخذ من ثمرته على قدر حاجتك، وتفيض بالباقي على غير القادرين.
ثم يقول: «فإنْ أنتَ رضيتَ بما قَسمتْهُ لك أرحْتَ قلبك وبدنك وكنتَ عندي محمودًا، وإنْ أنت لم تَرْضَ بما قََسَمْتُه لكَ فوعزتي وجلالي لأسلطنَّ عليك الدنيا تركضُ فيها ركْضَ الوحوش في البرية، ثم لا يكون لك منها إلا ما قَسَمْتُه لك، وكنت عندي مذمومًا، يا ابن آدم، خلقتُ السماوات والأرض ولم أَعْيَ بخلقهن، أَيُعْييني رغيفٌ أسوقه لك.. يا ابن آدم، لا تطالبني برزق غد كما لم أطالبك بعمل غدٍ، يا ابن آدم أنا لم أَنْسَ مَنْ عصاني، فكيف بمَنْ أطاعني؟».
وشاهدنا هنا قوله تعالى في آخر الحديث القدسي: «يا ابن آدم، أنا لك محب فبحقي عليك كُنْ لي مُحِبًا».
فربُّك يظهر لنا بذاته في مقام الخير وجلب النفع لك، أما في الشر فيشير إليك من بعيد، ويلفت نظرك برِفْق.
كما نلحظ في أسلوب الآية قوله تعالى- والخطاب لنساء النَّبِي {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ} [الأحزاب: 31] ولم يقل تقنت.. ثم أنَّثَ الفعل في {وَتَعْمَلْ صَالِحًا} [الأحزاب: 31] فمرة يراعي اللفظ، ومرة يراعي المعنى، وسبق أنْ قُلْنا إن {مَنْ} اسم موصول يأتي للمفرد وللمثنى وللجمع، وللمذكر وللمؤنث.
ونقف أيضًا هنا عند وصف الرزق بأنه كريم {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 31] قلنا: إن الرزق كل ما يُنتفع به من مأكل، أو مشرب، أو ملبس، أو مسكن، أو مرافق، وقد يأتي في صورة معنوية كالعلم والحلم.. إلخ، وهذا الرزق في الدنيا لا يُوصف بأنه كريم، إنما الكريم هو الرازق سبحانه، فلماذا وصف الرزق بأنه كريم؟
قالوا: فَرْق بين الرزق في الدنيا والرزق في الآخرة، الرزق في الدنيا له أسباب، فالسبب هو الرازق من ولد أو والٍ أو أجير أو تاجر.. إلخ فالذي يجري لك الرزق على يديه هو الذي يُوصف بالكرم، أما في الآخرة فالرزق يأتيك بلا أسباب، فناسب أنْ يُوصف هو نفسه بأنه كريم، ثم فيها ملحظ آخر: إذا كان الرزق يوصف بالكرم، فما بال الرازق الحقيقي سبحانه؟
ثم يقول الحق سبحانه: {يانساء النبي لَسْتُنَّ}.
كلمة أحد تُستخدم في اللغة عدة استخدامات، فنقول مثلًا في العدد: أحد عشر إنْ كان المعدودُ مذكرًا، وإحدى عشرة إن كان المعدود مؤنثًا، أما في حالة النفي فلا تُستعمل إلا بصيغة واحدة أحد، وتدل على المفرد والمثنى والجمع، وعلى المذكر والمؤنث، فتقول: ما عندي أحد، لا رجلٌ ولا امرأة ولا رجلان ولا امرأتان، ولا رجال ولا نساء، لذلك جاء قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4].
وقوله سبحانه: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النساء} [الأحزاب: 32] هذه خصوصية لهن؛ لأن الأشياء تمثل أجناسًا وتحت الجنس النوع، فالإنسان مثلًا جنس، منه ذكر ومنه أنثى، وكل نوع منهما تحته أفراد، والذكر والأنثى لم يفترقا إلى نوعين بعد أنْ كانا جنسًا واحدًا، إلا لاختلاف نشأ عنهما بعد اتفاق في الجنس فالجنس حَدٌّ مُشترك: حيٌّ ناطق مفكر، فلما افترقا إلى نوعين صار لكل منهما خصوصيته التي تُميِّزه عن الآخر.
كما قلنا في الزمن مثلًا، فهو ظرف للأحداث، فإنْ كانت أحداثَ حركة فهي النهار، وإنْ كانت أحداثَ سُكُون فهي الليل، فالليل والنهار نوعان تحت جنس واحد هو الزمن، ولكل منهما خصوصيته، وعلينا أن نراعي هذه الخصوصية، فلا نخلط بينهما.
وتأمل قول الله تعالى: {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 1-4].
فالليل والنهار متقابلان متكاملان لامتضادان، كذلك الذكر والأنثى، ولكلٍّ دوره ومهمته الخاصة، فإنْ حاولتَ أنْ تجعلَ الليل نهارًا، أو الذكر أنثى أو العكس، فقد خالفتَ هذه الطبيعة التي اختارها الخالق سبحانه.
وحكينا قصة الرجل الذي مرَّ على عمدة القرية، فوجده يضرب غفيرًا عنده، فدافع عن الغفير وقال للعمدة: لماذا تضربه يا عم إبراهيم؟ قال: مررتُ عليه ووجدتُه نائمًا، فقال الرجل: نام؛ لأنه قضي النهار يروي لك أرضك، ومَنْ يحرث لا يحرس.
إذن: تحت الجنس النوع، وهذا النوع غير متكافيء؛ لأنه لو تساوى لكان مكررًا لا فائدة منه، إنما يختلف الأفراد ويتميزون؛ لذلك لا تظن أنك تمتاز عن الآخرين؛ لأن الله تعالى وزَّع المواهب بين خَلْقه، فأنت تمتاز في شيء، وغيرك يمتاز في شيء آخر، ذلك ليرتبط الناس في حركة الحياة ارتباطَ حاجةٍ، لا ارتباطَ تفضُّل كما قُلْنا.
لذلك، فالرجل الذي يكنس لك الشارع مُميِّزٌ عنك؛ لأنه يؤدي عملًا تستنكف أنت عن أدائه، وإذا أدَّى لك هذا العامل عملًا لابد أنْ تعطيه أجره، في حين إذا سألك مثلًا سؤالًا وأنت العالم أو صاحب المنصب. إلخ فإنك تجيبه، لكن دون أنْ تأخذ منه أجرًا على هذا الجواب، وقد مكثتَ أنت السنوات الطوالَ تجمع العلم وتقرأ وتسمع، إلى أنْ وصلتَ إلى هذه الدرجة، وصارت لك خصوصية، إذن: لكل منا، ذكر أو أنثى، فردية شخصية تُميِّزه.
هنا يقول الحق سبحانه لنساء النبي {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النساء} [الأحزاب: 32] هذه هي الخصوصية التي تُميِّزهن عن غيرهن من مطلق النساء، فمطلق النساء لَسْنَ قدوة، إنما نساء النبي خاصة قدوة لغيرهن من النساء وأُسْوة تُقتدى.
والشرط بعد هذا النفي {إِنِ اتقيتن} [الأحزاب: 32] يعني: أن زوجيتهن لرسول الله ليست هذه ميزة، إنما الميزة والخصوصية في تقواهن لله، وإلا فهناك من زوجات الأنبياء مَنْ كانت غير تقية.
وقوله تعالى: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] أي: اقْطَعْنَ طريق الفاحشة من بدايته، ولا تقربن أسبابها، واتركْنَ الأمور المشتبهة فيها. ومعنى الخضوع بالقول أنْ يكون في قول المرأة حين تخاطب الرجال ليونة، أو تكسُّر، أو ميوعة، أو أن يكون مع القول نظرات أو اقتراب.
فإذا اضطرِرِتُنَّ لمحادثة الرجال فاحذرْنَ هذه الصفات {فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] والمعنى: أنا لا أتهمكُنَّ، إنما الواحدة منكُنَّ لا تضمن الرجل الذي تُحدِّثه، فربما كان في قلبه مرض، فلا تعطيه الفرصة.
وليس معنى عدم الخضوع بالقول أنْ تُكلِّمْنَ الناسَ بغلظة وخشونة، إنما المراد أن تكون الأمور عند حدودها؛ لذلك يقول سبحانه بعدها {وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [الأحزاب: 32] فلما نهى القرآن عن التصرف غير المناسب عرض البديل المناسب، وهو القول المعروف، وهو من المرأة القول المعتدل والسماع بالأذن دون أنْ تمتد عينها إلى مُحدِّثها؛ لأن ذلك ربما أطمعه فيها، وجرَّاه عليها، وهذا ما يريد الحق سبحانه أنْ يمنعه.
لذلك حُكِي أن رجلًا رأى خادمته على الباب تُحدِّث شابًا وسيمًا، وكان يسألهَا عن شيء، إلا أنها أطالتْ معه الحديث، فضربها ربُّ البيت ونهرها على هذا التصرف، وفي اليوم التالي جاء شاب آخر يسألها عن نفس الشيء الذي سأل عنه صاحبه بالأمس، فبادرته بالشتائم والسُّباب بعد أنْ ظهر لها ما في قلب هذا، وأمثاله من مرض.
وفي موضع آخر من هذه السورة سيأتي: {يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب: 59]؛ لأن الرجل حين يجد المرأة محتشمة تستر مفاتن جسمها لا يتجزأ عليها، ويعلم أنها ليستْ من هذا الصنف الرخيص، فيقف عند حدوده.
وقد قال الحكماء: أما إذا رأيتَ امرأةً تُظهر محاسنها لغير محارمها وتُلِحُّ في عرض نفسها على الرجال، فكأنها تقول للرجل فتح يا بجم تقول للغافل تنبه. فتستثير فيه شهوته، فَيَتَجَرَأْ عليها.
فالحق سبحانه يريد لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم أولًا أنْ يُكلِّمْنَ الناس من وراء حجاب، وأنْ يُكلِّمْنَ الناس بالمعروف كلامًا لا لينَ فيه، ولا ميوعة حتى لا يَتعرَّضْنَ لسوء، ولا يتجزأ عليهن بذيء أو مستهتر.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية}.
معنى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] الزمنها ولا تُكثِرْن الخروج منها، وهذا أدب للنساء عامة؛ لأن المرأة إذا شغلتْ نفسها بعمل المطلوب منها في بيتها وفي خدمة زوجها وأولادها ومصالحهم لما اتسع الوقت للخروج؛ لذلك كثيرًا ما يعود الزوج، فيجد زوجته مُنهمِكة في أعمال البيت، وربما ضاق هو نفسه بذلك؛ لأنه لا يجدها متفرغة له.
إذن: المرأة المفلسة في بيتها هي التي تُكثِر الخروج، وتقضي مصالح بيتها من خارج البيت، ولو أنها تعلمتْ الصناعات البسيطة لَقضَتْ مصالح بيتها، ووفَّرتْ على زوجها، وقد حكوا لنا عن النساء في دمياط مثلًا، كيف أن المرأة هناك تعمل كل شيء وتساعد زوجها، حتى أن البنت تتعلم حرفة، ولا ترهق أباها عند زواجها، بل وتوفر من المال ما يساعد زوجها بعد أن تتزوج.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى} [الأحزاب: 33] كلمة التبرج من البُرْج، وهو الحصن، ومعنى تبرَّج أي: خرج من البرج وبرز منه، والمعنى: لا تخرجن من حصن التستر، ولا تبدين الزينة والمحاسن الواجب سَتْرُها.
وقال: {تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى} [الأحزاب: 33] أي: ما كان من التبرج قبل الإسلام، وكانت المرأة- ونعني بها الأَمَة لا الحرة- تبدي مفاتن جسمها، بل وتظهر شبه عارية، وكُنَّ لا يجدْنَ غضاضة في ذلك، وقد رأينا مثل هذا مثلًا في إفريقيا.
أما الحرائر في الجاهلية، فكانت لهُنَّ كرامة وعِفّة، في حين كانت تُقام للإماء أماكن خاصة للدعارة والعياذ بالله؛ لذلك لما أخذ رسول الله العهد على النساء المؤمنات ألاَّ يَزْنين قالت امرأة أبي سفيان: أو تزني الحرة يا رسول الله؟ يعني: هذا شيء مستنكف من الحرة، حتى في الجاهلية.
ومن معاني البرج: الاتساع، فيكون المعنى: لا تُوسِّعْنَ دائرة التبرج التي حددها الشرع، وهي الوجه والكفان.
وفي موضع آخر، قال تعالى: {والقواعد مِنَ النساء اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60].
وتعجب من المرأة تبلغ الخمسين والستين، ثم تراها تضع الأحمر والأبيض، ولا تخجل من تجاعيد وجهها، ولا تحترم السنَّ التي بلغتْها.
ثم يقول سبحانه: {وَأَقِمْنَ الصلاة وَآتِينَ الزكاة} [الأحزاب: 33] كثيرًا ما قرن القرآن بين الصلاة والزكاة، وبدأ بالصلاة؛ لأنها عمدة التكاليف كلها، وإنْ كنتَ في الزكاة تنفق بعض المال، والمال فرع العمل، والعمل فرع الزمن، فأنت في الصلاة تنفق الزمن نفسه وتضحي به، فكأنك في الصلاة تنفق نسبة سبعة وتسعين ونصف بالمائة، فضلًا عن الاثنين ونصف نسبة الزكاة.
كما يُفهم من إيتاء الزكاة هنا أن للمرأة ذمتها المالية الخاصة المستقلة عن ذمة الغير من أب أو زوج أو غيره، بدليل أن الله كلفها بإيتاء الزكاة، لكن الحضارة الحديثة جعلتْ مال المرأة قبل الزواج للأب، وبعد الزواج للزوج، ثم سلبتْ المرأة نسبتها إلى أبيها، ونسبتها بعد الزواج لزوجها.
وهذه المسألة أشدُّ على المرأة من سَلْبها المال؛ لأن نسبتها لزوجها طمْسٌ وتَعَدٍّ على هُويتها، وانظر مثلًا إلى السيدة عائشة، فما زلنا حتى الآن نقول عائشة بنت أبي بكر ولم يقل أحد انها عائشة امرأة محمد.
ثم يقول تعالى: {وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 33] لأن المسألة لا تقتصر على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، إنما هناك أمور أخرى كثيرة تحتاج طاعة الله وطاعة رسول الله.
ونلحظ هنا أن الآية عطفت رسول الله على ربه تعالى، وجاء الأمر واحدًا {وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 33] وحين نستقريء هذا الأمر في القرآن الكريم نجده مرة يُكرِّر الفعل، فيقول: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [التغابن: 12].
ومرة: {وَأَطِيعُواْ الله والرسول} [آل عمران: 132].
ومرة يقول تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} [النساء: 59].
وهذه الصيغ، لكلٍّ منها مدلول ومعنى، فساعةَ يقول: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، كأن لله في الأمر طاعةً في الإجمال، وللرسول طاعة في التفصيل، فالحق سبحانه أمر بالصلاة وأمر بالزكاة أَمْرَ إجمال، ثم بيَّن الرسول ذلك وفصَّل هذا الإجمال، فقال: «صَلُّوا كما رأيتموني أصلي» وقال: «خُذُوا عنِّي مناسككم».
إذن: تكرر الفعل هنا؛ لأن لله طاعةً في إجمال الحكم، وللرسول طاعة في تفصيله، فإنْ جعل الفعل واحدًا {وَأَطِيعُواْ الله والرسول} [آل عمران: 132] فهذا يعني توارد أمر الله تعالى مع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالطاعة إذن واحدة، وهَبْ أن الله تعالى له فِعْل، ورسوله له فِعْل، فلا يفصل أحدهما عن الآخر، بدليل قوله تعالى: {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} [التوبة: 74].
فلم يَقُلْ: وأغناهم رسوله حتى يقول قائل: كل منهما يُغْنى بقدرة، انما جاء الفعل واحدًا {أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ} [التوبة: 74] واقرأ أيضًا قوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62] ولم يقل: يرضوهما.
أما قوله تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} [النساء: 59] فلم يُكرِّر الأمر بالطاعة مع أولي الأمر؛ لأنه لا طاعة لوليِّ الأمر إلا من باطن طاعة الله، وطاعة رسول الله.